الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الطبري بعد أن ذكر هذه الأقوال في المراد بالذكر: والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمرَ عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له، بعد قَضاء مَناسكهم. وذلك الذكر جائز أن يكون هو التكبير الذي أمرَ به جل ثناؤه بقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة: 203] الذي أوجبه على من قضى نُسكه بعد قضائه نُسكه، فألزمه حينئذ مِنْ ذِكْره ما لم يكن له لازمًا قبل ذلك، وحثَّ على المحافظة عليه مُحافظة الأبناء على ذكر الآباء في الآثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرُّع الولد لوالده، والصبي لأمه وأبيه، أو أشد من ذلك، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه، وهو وليه.وإنما قلنا: الذكر الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاجَّ بعد قضاء مَناسكه بقوله: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا} جائزٌ أن يكون هو التكبير الذي وَصفنا، من أجل أنه لا ذكر لله أمرَ العباد به بعد قَضاء مَناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم، سوى التكبير الذي خصَّ الله به أيام منى.فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أنه جل ثناؤه قد أوجبَ على خلقه بعد قَضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبًا عليهم قبل ذلك، وكان لا شيء من ذكره خَصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه كانت بَيِّنةً صحةُ ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا. اهـ..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}: .قال الفخر: أما قوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} ففيه وجوه أحدها: وهو قول جمهور المفسرين: أنا ذكرنا أن القوم كانوا بعد الفراغ من الحج يبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم فقال الله سبحانه وتعالى: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} يعني توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء وابذلوا جهدكم في الثناء على الله وشرح آلائه ونعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم لأن هذا أولى وأقرب إلى العقل من الثناء على الآباء، فإن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبًا فذلك يوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في الآخرة وإن كان صدقًا فذلك يوجب العجب والكبر وكثرة الغرور، وكل ذلك من أمهات المهلكات، فثبت أن اشتغالكم بذكر الله أولى من اشتغالكم بمفاخر آبائكم، فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من التساوي.وثانيها: قال الضحاك والربيع: اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم، واكتفى بذكر الآباء عن الأمهات كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] قالوا وهو قول الصبي أول ما يفصح الكلام أبه أبه، أمه أمه، أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظبًا على ذكر أبيه وأمه.وثالثها: قال أبو مسلم: جرى ذكر الآباء مثلًا لدوام الذكر، والمعنى أن الرجل كما لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله.ورابعها: قال ابن الأنباري في هذه الآية: إن العرب كان أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء كقوله وأبي وأبيكم وجدي وجدكم، فقال تعالى: عظموا الله كتعظيمكم آبائكم.وخامسها: قال بعض المذكورين: المعنى اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منهم لو نسب إلى والدين لتأذى واستنكف منه ثم كان يثبت لنفسه آلهة فقيل لهم: اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية، بل المبالغة في التوحيد هاهنا أولى من هناك، وهذا هو المراد بقوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}.وسادسها: أن الطفل كما يرجع إلى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذاكرًا له بالتعظيم، فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك.وسابعها: يحتمل أنهم كانوا يذكرون آباءهم ليتوسلوا بذكرهم إلى إجابة الدعاء عند الله فعرفهم الله تعالى أن آباءهم ليسوا في هذه الدرجة إذ أفعالهم الحسنة صارت غير معتبرة بسبب شركهم وأمروا أن يجعلوا بدل ذلك تعديد آلاء الله ونعمائه وتكثير الثناء عليه ليكون ذلك وسيلة إلى تواتر النعم في الزمان المستقبل، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يحلفوا بآبائهم فقال: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» إذا كل ما سوى الله فإنما هو لله وبالله فالأولى تعظيم الله تعالى ولا إله غيره.وثامنها: روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: هو أن تغضب لله إذا عصى أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء.واعلم أن هذه الوجوه وإن كانت محتملة إلا أن الوجه الأول هو المتعين وجميع الوجوه مشتركة في شيء واحد، وهو أنه يجب على العبد أن يكون دائم الذكر لربه دائم التعظيم له دائم الرجوع إليه في طلب مهماته دائم الانقطاع عمن سواه، اللهم اجعلنا بهذه الصفة يا أكرم الأكرمين. اهـ..قال ابن عاشور: عن السدي: كان الرجل يقوم فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه وذكر أقوالًا نحوًا من ذلك.والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء. اهـ..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}: قال ابن عاشور:وقوله: {أو أشد ذكرا} أصل أو أنها للتخيير ولما كان المعطوف بها في مثل ما هنا أولى بمضمون الفعل العامل في المعطوف عليه أفادت {أو} معنى من التدرج إلى أعلى، فالمقصود أن يذكروا الله كثيرًا، وشبه أولًا بذكر آبائهم تعريضًا بأنهم يشتغلون في ذلك المناسك بذكر لا ينفع وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر. ولهذا قال أبو علي الفارسي وابن جنى: إن {أو} في مثل هذا للإضراب الانتقالي ونفَيَا اشتراط تقدم نفي أو شبهه واشتراط إعادة العامل. وعليه خُرج قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147]، وعلى هذا فالمراد من التشبيه أولًا إظهار أن الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائِهم ثم بين بأن ذكر الله يكون أشد لأنه أحق بالذكر.و{أشد} لا يخلو عن أن يكون معطوفًا على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله: {كذكركم آباءكم} تقديره: {كذكركم آباءكم} فتكون فتحة {أشد} التي في آخره فتحة نصب، فنصبه بالعطف على المصدر المحذوف الذي دل عليه قوله: {كذكركم} والتقدير: ذكرًا كذكركم آباءكم، وعلى هذا الوجه فنصب {ذكرًا} يظهر أنه تمييز لأشد، وإذ قد كان {أشد} وصفًا لذكر المقدر صار مآل التمييز إلى أنه تمييز الشيء بمرادفه وذلك ينافي القصد من التمييز الذي هو لإزالة الإبهام، إلاّ أن مثل ذلك يقع في الكلام الفصيح وإن كان قليلًا قلة لا تنافي الفصاحة اكتفاء باختلاف صورة اللفظين المترادفين، مع إفادة التمييز حينئذٍ توكيد المميز كما حكى سيبويه أنهم يقولون: هو أشح الناس رجلًا، وهما خير الناس اثنين، وهذا ما درج عليه الزجاج في تفسيره، قلت: وقريب منه استعمال تمييز نعم توكيدًا في قوله جرير:ويجوز أن يكون نصب {أشد} على الحال من ذكر الموالي له وأن أصل أشد نعت له وكان نظم الكلام: أو ذكرًا أشد، فقدم النعت فصار حالًا، والداعي إلى تقديم النعت حينئذٍ هو الاهتمام بوصف كونه أشد، وليتأتى إشباع حرف الفاصلة عند الوقف عليه، وليباعد ما بين كلمات الذكر المتكررة ثلاث مرات بقدر الإمكان. أو أن يكون {أشد} معطوفًا على ذكر المجرور بالكاف من قوله: {كذكركم} ولا يمنع من ذلك ما قيل من امتناع العطف على المجرور بدون إعادة الجار لأن ذلك غير متفق عليه بين أئمة النحو، فالكوفيون لا يمنعونه ووافقهم بعض المتأخرين مثل ابن مالك وعليه قراءة حمزة {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء: 1] بجر الأرحام وقد أجاز الزمخشري هنا وفي قوله تعالى: {كخشية الله أو أشد خشية} في [سورة النساء: 77] أن يكون العطف على المجرور بالحرف بدون إعادة الجار، وبعض النحويين جوزه فيما إذا كان الجر بالإضافة لا بالحرف كما قاله ابن الحاجب في إيضاح المفصل، وعليه ففتحة {أشد} نائبة عن الكسرة، لأن أشد ممنوع من الصرف وعلى هذا الوجه فانتصاب {ذكرا} على التمييز على نحو ما تقدم في الوجه الأول عن سيبويه والزجاج.ولصاحب (الكشاف) تخريجان آخران لإعراب {أو أشد ذكرًا} فيهما تعسف دعاه إليهما الفرار من ترادف التمييز والمميز، ولابن جني تبعًا لشيخه أبي علي تخريج آخر، دعاه إليه مثل الذي دعا الزمخشري وكان تخريجه أشد تعسفًا ذكره عنه ابن المنير في الانتصاف، وسلكه الزمخشري في تفسير آية سورة النساء.وهذه الآية من غرائب الاستعمال العربي، ونظيرتها آية سورة النساء، قال الشيخ ابن عرفة في تفسيره وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلاّ ابن عبد السلام وابن الحباب وما قصر الطيبي فيها وهو الذي كشف القناع عنها هنا وفي قوله تعالى في [سورة النساء: 77].{يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه؛ لأني كنت عند ابن عبد السلام لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له: ننظر ما قال في {أشد خشية} فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذ ذاك على نسخها. اهـ. .من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}: .قال البقاعي: ولما أمر تعالى بما أمر من ذكره لذاته ثم لإحسانه على الإطلاق ثم قيد بإفراده بذلك وترك ذكر الغير سبب عنه تقسيم الناس في قبول الأمر فقال صارفًا من القول عن الخطاب دلالة على العموم: {فمن الناس من} تكون الدنيا أكبر همه فلا التفات له إلى غيرها فهو {يقول} أفرد الضمير رعاية للفظ من بشارة بأن الهالك في هذه الأمة إن شاء الله قليل {ربنا} أيها المحسن إلينا {آتنا في الدنيا} ومفعوله محذوف تقديره: ما نريد والحال أنه {ما له} ويجوز أن يكون عطفًا على ما تقديره: فيعطيه ما شاء سبحانه منها لا ما طلب هو، وليس له {في الآخرة من خلاق} أي نصيب لأنه لا رغبة له فيها فهو لا يطلبها ولا يسعى لها سعيها.قال الحرالي: والخلاق الحظ اللائق بالخَلق والخُلق. اهـ..قال الفخر: اعلم أن الله تعالى بين أولا تفصيل مناسك الحج، ثم أمر بعدها بالذكر، فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره، وأن يقتصر على ذكره فقال: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدنيا} وما أحسن هذا الترتيب، فإنه لابد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها، ثم بعد العبادة لابد من الاشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلى نور جلاله، ثم بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقًا بالذكر كما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قدم الذكر فقال: {الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] ثم قال: {رَبّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} [الشعراء: 83] فقدم الذكر على الدعاء.إذا عرفت هذا فنقول: بين الله تعالى أن الذين يدعون الله فريقان أحدهما: أن يكون دعاؤهم مقصورًا على طلب الدنيا والثاني: الذين يجمعون في الدعاء بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، وقد كان في التقسيم قسم ثالث، وهو من يكون دعاؤه مقصورًا على طلب الآخرة، واختلفوا في أن هذا القسم هل هو مشروع أو لا؟ والأكثرون على أنه غير مشروع، وذلك أن الإنسان خلق محتاجًا ضعيفًا لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بمشاق الآخرة، فالأولى له أن يستعيذ بربه من كل شرور الدنيا والآخرة، روى القفال في تفسيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض، فقال: ما كنت تدعو الله به قبل هذا قال: كنت أقول: اللهم ما كنت تعاقبني به في الآخرة فعجل به في الدنيا، فقال النبي عليه السلام: «سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت {رَبَّنَا آتِنَا في الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار} [البقرة: 201]» قال فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفي.واعلم أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن، أو على منبت شعرة واحدة، لشوش الأمر على الإنسان وصار بسببه محرومًا عن طاعة الله تعالى وعن الاشتغال بذكره، فمن ذا الذي يستغني عن إمداد رحمة الله تعالى في أولاه وعقباه، فثبت أن الاقتصار في الدعاء على طلب الآخرة غير جائز، وفي الآية إشارة إليه حيث ذكر القسمين، وأهمل هذا القسم الثالث. اهـ.
|